الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
في كلت رجليها سلامى زائده *** كلتاهما قد قرنت بواحده على أن كلت أصلها كلتا، حذفت ألفها ضرورة، وفتحة التاء دليل عنها، رأيت في حاشية الصحاح: أن هذا البيت من رجز يصف به نعامة، فضمير رجليها عائد على النعامة. والسلامى على وزن حبارى: عظم في فرسن البعير، وعظام صغار طول إصبع وأقل في اليد والرجل، والجمع سلاميات. والفرسن بكسر أوله وثالثه، هو للبعير بمنزلة الحافر للفرس. والضمير في كلتاهما للرجلين. وقوله في كلت خبر مقدم، والكسرة مقدرة على الألف المحذوفة، وسلامى مبتدأ مؤخر. وزائدة وصفه وكلتاهما مبتدأ، وما بعده الخبر. وهذا المصراع تأكيد للأول، وفيه قلب: يجعل المجرور والمرفوع في الأول مرفوعاً ومجروراً في الثاني، أي: قرنت بواحدة من السلاميات. وأورده الشارح - مرة ثانية هنا - على أن الكوفيين زعموا أن كلت مفرد كلتا، لكن هذا المفرد لم يستعمل ويجوز استعماله للضرورة، كما في هذا البيت؛ أقول: الكوفيون ذهبوا إلى أن كلا وكلتا فيهما تثنية لفظية ومعنوية، وأصلهما كل فكسرت الكاف وخففت اللام وزيدت الألف للتثنية والتاء للتأنيث. وقد بين الشارح مذهبهم؛ واستدلوا على أنهما مثنيان لفظاً ومعنى وأن ألفهما للتثنية، بالسماع والقياس. أما السماع فنحو هذا البيت، فأفرد كلت وهي بمعنى إحدى، فدل على أن كلتا تثنية وأما القياس فقالوا: الدليل على أن ألفهما للتثنية، أنها تنقلب إلى الياء في النصب والجر إذا أضيفا إلى المضمر، ولو كانت ألف قصر لم تنقلب. وذهب البصريون إلى أنهما ليستا بمأخوذتين من كل، لأن كلا للإحاطة، وهما لمعنى مخصوص، ليس أحد القبيلين مأخوذاً من الآخر، بل مادتهما الكاف واللام والواو وهما مفردان لفظاً مثنيان معنى، والألف في كلا كألف عصا وفي كلتا للتأنيث، ويدل لما قالوا عود الضمير إليهما تارة مفرداً حملاً على اللفظ، وتارة مثنى حملاً على المعنى، وقد اجتمعا في قوله: البسيط كلاهما حين جد الجري بينهم *** قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي ولو كانا مثنيين حقيقة للزمهم أمران: الأول: كان يجب عود الضمير إليهما مثنى، مع أن الحمل على اللفظ فيهما أكثر من الحمل على المعنى؛ ونظيرهما كل، فإنه يجوز عود الضمير إليها مفرداً بالنسبة إلى لفظها، نحو كل القوم ضربته، وعوده جمعاً بالنسبة إلى معناها نحو كل القوم ضربتهم، لكن الحمل على المعنى فيه أكثر من الحمل على اللفظ، عكس كلا وكلتا. الثاني: كان يمتنع نحو كلا أخويك، لأنه يلزم إضافة الشيء إلى نفسه. ويدل على أن ألفهما ألف مقصورة إمالتها: كما قرأ حمزة والكسائي وخلف، بإمالة قوله تعالى: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهم وكلاهما}، وقوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها}، فلو كانت للتثنية لما جاز إمالتها. وأجابوا عن الدليل الأول بأنه لا حجة في البيت فإن أصله كلتا، حذفت الألف ضرورة واكتفى عنها بفتحة التاء، كما قال الشاعر: الرجز وصاني العجاج فيما وصني أراد وصاني. وقال الآخر: الوافر فلست بمدرك ما فات مني *** بلهف ولا بليت ولا لو اني أراد بلهفى، فحذفت الألف منهما ضرورة، ومثله كثير. أقول: استدلالهم بهذا البيت على الإفراد يرده معناه، فإن المعنى على التثنية، بدليل تأكيده بالمصراع الثاني، فتأمل. وأجابوا عن الدليل الثاني بأنها إنما قلبت في حال الإضافة إلى المضمر لوجهين: أحدهم: أنه لما كان فيهما إفراد لفظي وتثنية معنوية، وكانا تارة يضافان إلى المظهر وتارة إلى المضمر، جعلوا لها حظاً من حالة الإفراد وحظاً من حالة التثنية. وإنما جعلوهما مع الإضافة إلى المظهر بمنزلة المفرد لأن المفرد هو الأصل؛ وجعلوهما مع الإضافة إلى المضمر بمنزلة التثنية لأن المضمر فرع والتثنية فرع، فكان الفرع أولى بالفرع. والثاني: أنه إنما لم تقلب ألفهما مع المظهر لأنهما لزمتا الإضافة وجر الاسم بعدهما، فأشبهتا لدى، وإلى، وعلى. وكما أن هذه الثلاثة لا تقلب ألفها مع المظهر وتقلب مع المضمر، وكان كلا وكلتا كذلك. ويدل على صحة ذلك أن القلب فيهما يختص بحالة النصب والجر دون الرفع، فلهذا المعنى كان القلب مختصاً بهما دون حالة الرفع. قال الأنباري في كتاب الإنصاف: وهذا الوجه أوجه الوجهين، وبه علل أكثر المتقدمين. قال: والدليل على أن الألف فيهما ليست للتثنية أنها لو كانت للتثنية لانقلبت في حالة النصب والجر إذا أضيفتا إلى المظهر، لأن الأصل هو المظهر والمضمر فرعه، فلما لم تنقلب دل على أنها ألف مقصورة لا أنها للتثنية. والله أعلم. هذا وقد قال أبو حيان في تذكرته: هذا البيت من اضطرار الشعراء، وكلت ليست بواحد كلتا، بل هو جاء بمعنى كلا، غير أنه أسقط الألف اعتماداً على الفتحة التي قبلها، وعملاً على أنها تكفي من الألف الممالة إلى الياء، وما من الكوفيين أحد يقول: كلت واحدة كلتا، ولا يدعي أن لكلا وكلتا واحداً منفرداً في النطق مستعملاً. فإن ادعاه عليه مدع فهو تشنيع وتفحيش من الخصوم على قول خصومهم . انتهى. ويؤيده ما رأيته في معاني القرآن للفراء عند تفسير قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها}؛ وهذه عبارته: وقد تفرد العرب إحدى كلتي بالإمالة، وهم يذهبون بإفرادها إلى تثنيتها. وأنشدني بعضهم: في كلت رجليها سلامى واحده *** كلتاهما قد قرنت بزائده يعني الظليم، يريد بكلت كلتي وأنشد بعده: وهو كلت كفيه توالي دائم *** بجيوش من عقاب ونعم على أن كلت مفرد كلتا عند الكوفيين. والكلام عليه كالكلام على البيت الذي قبله. ووالى بين الأمرين موالاة وولاء: تابع. والجيش: الجند: وقيل: الجند السائر لحرب وغيرها. والعقاب: النكال. والنعم: جمع نعمة، وهو المال هنا: والظاهر أن المراد الشاعر: أن إحدى يديه تفيد النعم لأوليائه، والأخرى توقع النقم بأعدائه، كما قال آخر: المتارب يداك: يد خيرها يرتجى *** وأخرى لأعدائها غائظة وحينئذ فلا يتأتى قول الكوفيين إن كلت هنا بمعنى إحدى؛ فوجب أن يكون أصله كلتا، حذفت الألف ضرورة، كما تقدم بيانه في البيت السابق. وفيه أيضاً ما نقلناه. وأنشد بعده: وهو كلانا إذا ما نال شيئاً أفاته *** ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل على أن كلا وكلتا لو كانتا مثنيين حقيقة لو يجز عود ضمير المفرد إليهما، كما عاد ضمير نال المفرد إلى كلا في هذا البيت، فلما عاد إليها ضمير المفرد علم أنها مفردة لفظاً مثناة معنى، فعاد إليها باعتبار اللفظ، وهو الكثير. ويجوز أن يثنى الضمير العائد إليها باعتبار المعنى. وهذا البيت من أبيات أربعة رواها الرواة لتأبط شراً، منهم الأصمعي، وأبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات، وابن قتيبة في أبيات المعاني. وخالفهم أبو سعيد السكري، وزعم أنها لامرئ القيس، ورواها في معلقته المشهورة بعد قوله: كأن الثريا علقت في مصامه *** بأمراس كتان إلى صم جندل والأبيات هذه: وقربة أقوام جعلت عصامه *** على كاهل مني ذلول مرحل وواد كجوف العير قفر قطعته *** به الذئب يعوي كالخليع المعيل فقلت له لما عوى: أن شأنن *** قليل الغنى إن كنت لما تمول كلانا إذا ما نال شيئاً أفاته *** ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل وهذا الكلام أشبه بكلام اللص والصعلوك، لا بكلام الملوك. الواو واو رب. والعصام: الحبل الذي تحمل به القربة ويضعه الرجل على عاتقه وعلى صدره. والكاهل: موصل العنق والظهر. والذلول: فعول من ذلت الدابة ذلاً بالكسر: سهلت وانقادت، فهي ذلول. والمرحل: اسم مفعول من رحلته ترحيلاً، إذا أظعنته من مكانه وأرسلته. يصف نفسه بأنه يخدم أصحابه. قوله: وواد كجوف العير.. إلخ الواو حرف عطف، عطفت على مجرور واو رب، وجوف العير فيه قولان: أحدهما: أنه مثل ما لا ينتفع منه بشيء. قال أبو نصر: والعير عند الأصمعي الحمار، يذهب به إلى أنه ليس في جوف الحمار شيء يؤكل وينتفع به إذا صيد، فجوف الحمار عندهم بمنزلة القفر. وفي كتاب العشرات للتميمي. في المثل: تركه جوف حمار ، أي: ليس فيه ما ينتفع به. الثاني: أن العير رجل من العمالقة، وقيل من عاد، كان له بنون وواد خصيب وكان حسن الطريقة، فخرج بنوه يتصيدون فأصابتهم صاعقة فأحرقتهم فكفر بالله وقال: لا أعبد رباً أحرق بني! وأخذ في عبادة الأصنام، ودعا قومه إليها فمن أبى قتله، فسلط الله على واديه ناراً، فأهلكه وأخرب واديه. والوادي، بلغة اليمن: الجوف. قال حمزة الأصبهاني في أمثاله: قال أبو نصر: قال الأصمعي: حدثني ابن الكلبي عن فروة بن سعيد عن عفيف الكندي: أن هذا الذي ذكرته العرب كان رجلاً من بقايا عاد، يقال له: حمار بن مويلع، فعدلت العرب عن ذكر الحمار إلى ذكر العير لأنه في الشعر أخف وأسهل مخرجاً. وقد ضربت العرب المثل به في الخراب والخلاء فقالو: أخرب من جوف حمار . وأخلى من جوف حمار . قال الشاعر: الرمل وبشؤم البغي والغشم قديم *** ما خلا جوف ولم يبقى حمار وقالوا أيض: أكفر من حمار . وقال بعضهم: أراد بجوف العبر وسط السيف. والعير: وسط السيف. والخليع ، قال ابن قتيبة في أبيات المعاني: هو الذي قد خلعه أهله لجناياته. والمعيل: الذي ترك يذهب ويجيء حيث شاء. وقال الخطيب التبريزي: الخليع: المقامر، ويقال: هو الذي خلع عذاره فلا يبالي ما ارتكب. والمعيل: الكثير العيال؛ وأراد يعوي عواء مثل عواء الخليع . وقوله: إن كنت لما تمول لما نافية، وتمول: مضارع محذوف منه التاء، الماضي تمول إذا صار ذا مال. ومثله مال الرجل يمول ويمال مولاً ومؤولاً. يقول: إن كنت لم تصب من الغنى ما يكفيك فإن شأننا قليل الغنى: أي: أنا لا أغني عنك وأنت لا تغني عني شيئاً، أي: أنا أطلب وأنت تطلب فكلانا لا غنى له ومن رواه طويل الغنى أراد: همتي تطول في طلب الغنى. وروى ابن قتيبة: وقلت له لما عوى إن ثابتاً قليل... الخ. وقوله: كلانا إذا مانال إلخ، نال ينال نيلاً: أصابه. وأفاته: فوته ولم يدخره. ورواه ابن قتيبة: كلانا مضيع لا خزانة عنده والمضيع، من أضاع المال بمعنى أهلكه. وروى الدينوري: كلانا مقل لا خزانة عنده وقال: يقال للعمل في الحرث - لزرع كان ولغرس - الحراثة والفلاحة والإكارة، ثم قيل للعمل في كل شيء حرث، فقيل: فلان يحرث لآخرته. يقول: من يكسب كسبي وكسبك لا يستغني، لأنه يعيش من الخلس ولا يقتني. وقال الخطيب التبريزي: أي: من طلب مني ومنك شيئاً لم يدرك مراده. وقال قوم: معناه من كانت صناعته وطلبته مثل طلبتي في هذا الموضع مات هزالاً، لأنهما كانا بواد لا نبات فيه ولا صيد . وتأبط شراً اسمه ثابت، وكنيته أبو زهير بن جابر بن سفيان بن عميثل ابن عدي بن كعب بن حرب بن تيم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس عيلان. وأمه أميمة من قين: بطن من فهم. وفي تلقيبه بتأبط شراً أربعة أقوال: أحدها: وهو المشهور، أنه تأبط سيفاً وخرج فقيل لأمه أين هو؟ فقالت: لا أدري، تأبط شراً وخرج. الثاني: أن أمه قالت له في زمن الكمأة: ألا ترى غلمان الحي يجتنون لأهلهم الكمأة فيروحون بها! فقال لها: أعطيني جرابك حتى أجتني لك فيه. فأعطته فملأه لها أفاعي من أكبر ما قدر عليه، وأتى به متأبطاً له، فألقاه بين يديها، ففتحته فسعين بين يديها في بيتها، فوثبت وخرجت منه؛ فقال لها نساء الحي: ماذا كان الذي تأبط ثابت اليوم؟ قالت: تأبط شراً. الثالث: أنه رأى كبشاً في الصحراء فاحتمله تحت إبطه، فجعل يبول طول الطريق عليه، فلما قرب من الحي ثقل عليه حتى لم يقله، فرمى به فإذا هو الغول! فقال له قومه: بم تأبط يا ثابت؟ فأخبرهم، فقالوا: لقد تأبط شراً. الرابع: أنه أتى بالغول فألقاه بين يديها، فسئلت أمه عما كان متأبطاً، فقالت ذلك؛ فلزمه. وكان أحد لصوص العرب يغزو على رجليه وحده، وكان إذا جاع نظر إلى الظباء فيتنقى على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه فلا يفوته حتى يأخذه. وترجمته مذكورة في الأغاني بحكايات كثيرة يتعجب منها العقل لغرابتها. وقيس عيلان تركيب إضافي لأن عيلان اسم فرس قيس لا أبيه كما ظنه بعض الناس، كذا في القاموس وغيره. وهو بفتح العين المهملة، وليس عيلان في لغة العرب غيره وما عداه غيلان بالمعجمة. وقيس: أبو قبيلة من مضر، واسمه الناس ابن مضر بن نزار، وقيس لقبه. يقال: تقيس فلان، إذا تشبه بهم وتمسك منهم بسبب، إما بحلف وجوار وولاء. قال رؤبة: الرجز وقيس عيلان ومن تقيسا ثم رأيت في شرح أدب الكاتب للجواليقي قال، عند بيت رؤبة هذا: قيس عيلان بن مضر، ويقال قيس بن عيلان، واسمه الناس بالنون، وأخوه إلياس بالياء وفيه العدد. وكان الناس متلافاً، وكان إذا نفذ ما عنده أتى أخاه إلياس فيناصفه ماله أحياناً ويواسيه أحياناً، فلما طال ذلك عليه وأتاه كما كان يأتيه قال له إلياس: غلبت عليك العيلة فأنت عيلان، فسمي لذلك عيلان وجهل الناس . ومن قال قيس بن عيلان فإن عيلان كان عبداً لمضر حضن ابنه الناس فغلب على نسبه. ومثله في الأنساب للكلبي، قال: كان عيلان عبداً لمضر فحضن ابنه الناس. وأنشد بعده: وهو فلا أعني بذلك أسفليكم *** ولكني أريد به الذوينا على أن الذوين داخل في حد الجمع المذكور على أي وجه كان، لأن واحده ذو. وأنشده أيضاً في آخر باب الإضافة على أن قطع ذو وإدخال اللام عليه شاذ، وذلك لإجرائه مجرى صاحب. وأنشده أيضاً في باب الجمع المذكر السالم على أنه لو اعتبر اللام أي لام الفعل لقال الذوين كالأعلين، فإن ذو مفتوح العين عند س. قال أبو علي الفارسي في الإيضاح الشعري: كسر العين من الذوين وكان حقها أن تفتح، لأن ذوين جمع ذوى، وقد ثبت ب ذواتا أفنان أن العين مفتوحة . قال في الصحاح: ولو سميت رجلاً ذو لقت هذا ذوى قد أقبل، فترد ما ذهب منه، لأنه لا يكون اسم على حرفين أحدهما حرف لين، لأن التنوين يذهبه فيبقى على حرف واحد . وأنشده س أيضاً في باب تغيير الأسماء المبهمة إذا صارت أعلاماً خاصة فإنه جمع ذو جمعاً سالماً وأفرده من الإضافة وأدخل عليه اللام وجعله اسماً على حياله. قال في الصحاح: ولو جمعت ذو مال لقلت هؤلاء ذوون، لأن الإضافة قد زالت. وأنشد بيت الكميت وقال: أراد أذواء اليمن. وكذلك قال أبو البقاء في شرح الإيضاح النحوي للفارسي: إنما جاز هذا لأنه أراد ملوك اليمن فقد أخرجه إلى باب المفرد، ولذلك قالوا: الأذواء في هؤلاء. لكن قال أبو بكر الزبيدي في كتاب لحن العامة: لايجوز أن تدخل اللام على ذو ولا على ذات في حال إفراد ولا تثنية ولا جمع، ولا تضاف إلى المضمرات، وإنما تقع مضافة إلى الظاهر. وقد غلط في ذلك أهل الكلام وأكثر النحويين من الشعراء والكتاب والفقهاء. فأما قولهم في ذي رعين وذي أصبح، وذي كلاع: الأذواء، وقوله: ولكني أريد به الذوينا فليس من كلامهم المعروف، ألا ترى أنك لا تقول هؤلاء أذواء الدار ولا مررت بأذواء المال. وإنما أحث ذلك بعض أهل النظر، كأنه ذهب إلى جمعه على الأصل، لأن أصل ذو ذوى فجمعه على أذواء، مثل قفا وأقفاء. وكذلك الذوون، كأنه جمعه مفرداً وأخرجه مخرج الأذواء في الانفراد، وذلك غير مقول، لأن ذو لا تكون إلا مضافة، وكما لا يجوز أن تقول هذا الذو والذوان فتفرد؛ فكذلك لا تقول الأذواء ولا الذوون، لأن ذو لا تكون إلا مضافة وكذلك جمعها . والصحيح عند س ومن تبعه جواز جمع ذو في نحو ذي رعين: مما هو جزء علم على الأذواء والذوين كما في شعر الكميت، وهو عربي فصيح. ومراد الزبيدي بتغليط من ذكر: أنهم يقولون الذات وذاته، فيدخلون اللام عليه ويضيفونه إلى الضمير وهو مؤنث ذو، وهذا جائز أيضاً وإن توقف فيه أكثر الناس، فإن الذات قد أجري مجرى الأسماء الجامدة، فإن المراد به حقيقة الشيء ونفسه، من غير ملاحظة موصوف يجري عليه. قال الزركشي في تذكرته: سئل الزمخشري عن إطلاق الذات على الله عز وجل، فأجاب بأنها تأنيث ذو بمعنى صاحب، وهي موضوعة ليوصف بها ما تلبس بما يلزمها الإضافة إليه من الأجناس في نحو قولهم: رجل ذو مال وامرأة ذات جمال، ثم قطعت عن مقتضاها وأجريت مجرى الأسماء الجوامد، فلا تلزم الإضافة ولا الإجراء على موصوف، وعني به نفس الباري وحقيقته، وأصلها في التقدير نفس ذات علم وغيره من الصفات، ثم استغنى بالصفة عن الموصوف، ومثله كثير. وحذف المضاف إليه لإرادة التعيم كما تحذف المفاعيل. فإن قلت: كيف جاز إطلاقه على الله مع ما فيه من التأنيث، وهم يمنعون إطلاق العلامة عليه مع أن تاءه للمبالغة لما فيه من الإيهام؟ قلت: ساغ من حيث ساغ النفس والحقيقة، ووجهه أن امتناع علامة لأنه صفة حذي بها حذو الفعل في التفصلة بين المذكر والمؤنث، بخلاف الأسماء التي لا تجري على مجرى الأفعال في الفرق، فلما انسلكت الذات في مسلك الأسماء جرت مجرى النفس والحقيقة. فإن صح ما حكي عن العرب من قولهم: جعل الله ما بيننا في ذاته. وعليه بنى حبيب قوله: ويضرب في ذات الإله فيوجع فالكلمة إذن عربية، وعلى ذلك استعمال المتكلمين . واعلم أن استشهادهم بشعر حبيب وبما وقع في الحديث من قوله: ثلاث كذبات في ذات ليلة لتصحيح هذه اللفظة، فيه أن بعض المحققين قال: ليس معناه ما ذكرو، وإنما معنى ذات فيه أمور تستند إلى الله مما أراده وأوجبه على عباده، من طاعته وعبادته والإيمان به، ونحو ذلك، وهو المتبادر منه بشهادة السياق والتأمل الصادق. وهذا البيت من قصيدة الكميت بن زيد، هجا بها أهل اليمن تعصباً لمضر. وسيأتي في الشاهد الرابع والعشرين سبب عصبيته لمضر ونظمه لهذه القصيدة. يقول: لا أعني بهجوي إياكم أراذلكم، وإنما عليتكم وملوككم. وروى: الوافر لم أقصد بذلك أسفليكم *** ولكني عنيت به الذوينا يقال: عنيته عنيا من باب رمى: قصدته. فمفعوله أسفليكم وهو جمع مذكر سالم. واعتنيت بأمري: اهتممت واحتفلت. وعنيت به أعني، من باب رمى أيضاً عناية كذلك. وأما المبني للمفعول نحو عنيت بأمر فلان عناية وعنيا فهو بمعنى شغلت به. ولتعن بحاجتي، أي: لتكن حاجتي شاغلة لسرك. وربما قيل عنيت بأمره بالبناء للفاعل. كذا في المصباح . والأسفلون: جمع أسفل، وهو خلاف الأعلى. يقال: سفل سفولاً من باب قعد، وسفل من باب قرب لغة: صار أسفل من غيره. وسفل في خلقه وعمله سفلاً من باب قتل وسفالاً، والاسم السفل بالضم. ومنه قيل للأراذل سفلة بفتح السين وكسر الفاء، ويجوز التخفيف بنقل الكسرة إلى ما قبلها. وأراد بالذوين الأذواء، وهم ملوك اليمن المسمون بذي يزن، وذي جدن، وذي نواس، وهم التبابعة. وقال ابن الشجري في أماليه، وأذواء اليمن منهم ملوك ومنهم أقيال، والقيل دون الملك. ثو سرد من سمي بذي كذا من ملوك اليمن، وبالغ في جمعها وشرحها، فمن أرادها فلينظر ثمة. ومن يقال له الكميت من الشعراء كما في المؤتلف والمختلف للآدمي ثلاثة من بني أسد بن خزيمة. أولهم: الكميت الأكبر بن ثعلبة بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن جحوان - بتقديم المعجمة - ابن فقعس. والثاني: الكميت بن معروف بن الكميت الأكبر. والثالث: هو صاحب الشاهد، وهو الكميت بن زيد بن الأخنس بن مجالد بن ربيعة بن قيس بن الحارث بن عامر بن دويبة بن عمرو بن مالك بن سعد بن ثعلبة ابن دودان بن أسد. وهو كوفي شاعر مقدم عالم بلغات العرب، خبير بأيامها، ومن شعراء مضر وألسنتها المتعصبين على القحطانية المقارعين العالمين بالمثالب، يقال: ما جمع أحد من علم العرب ومناقبها ومعرفة أنسابها ما جمع الكميت، فمن صحح الكميت، نسبه صح، ومن طعن فيه وهن. وسئل معاذ الهراء عن أشعر الناس فقال: من الجاهليين امرؤ القيس وزهير وعبيد ابن الأبرص، ومن الإسلاميين الفرزدق وجرير والأخطل. فقيل له: يا أبا محمد، ما رأيناك ذكرت الكميت! قال: ذاك أشعر الأولين والأخرين. وقال أبو عكرمة الضبي: لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان، حببهم إلى الناس وأبقى لهم ذكراً. وقال بعضهم: في الكميت خصال لم تكن في شاعر. كان خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وكان ثبت الجنان، وكان كاتباً حسن الخط، وكان نسابة، وكان جدلياً. وهو أول من ناظر في التشيع مجاهراً بذلك، وله في أهل البيت القصائد المشهورة، وهي أجود شعره. وكان في صغره ذكياً لوذعياً. يقال أنه وقف وهو صبي على الفرزدق وهو ينشد، فأعجبه سماعه، فلما فرغ قال: يا غلام كيف ترى ما تسمع؟ قال: حسن يا عم. قال: أيسرك أني أبوك؟ قال: أما أب فلا أبغي به بدلاً، ولكن يسرني أنك أمي! فحصر الفرزدق وقال: ما مر بنا مثلها. وحكى صاعد، مولى الكميت، قال: دخلت مع الكميت على علي بن الحسين رضي الله عنه فقال: إني قد مدحتك بما أرجو أن يكون لي وسيلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أنشده قصيدته التي أوله: الخفيف من لقلب متيم مستهام *** غير ما صبوة ولا أحلام فلما أتى على آخرها قال له: ثوابك نعجز عنه، ولكن ما عجزنا عنه فإن الله لا يعجز عن مكافأتك: اللهم اغفر للكميت، اللهم اغفر للكميت. ثم سقط له على نفسه وعلى أهله أربعمائة ألف درهم وقال له: خذ يا أبا المستهل. فقال له: لو وصلتني بدانق لكان شرفاً لي ولكن إن أحببت أن تحسن إلي فادفع إلي بعض ثيابك التي تلي جسدك أتبرك بها. فقام فنزع ثيابه ودفعها إليه كلها، ثم قال: اللهم إن الكميت جاد في آل رسولك وذرية نبيك بنفسه حين ضن الناس، وأظهر ما كتمه غيره من الحق؛ فأحيه سعيداً، وأمته شهيداً، وأره الجزاء عاجلاً، وأجزل له جزيل المثوبة آجلاً؛ فإنا قد عجزنا عن مكافأته. قال الكميت: ما زلت أعرف بركة دعائه. وحدث محمد بن سهل قال: دخلت مع الكميت على جعفر الصادق في أيام التشريق فقال: جعلت فداؤك، ألا أنشدك؟ قال: إنها أيام عظام. قال: إنها فيكم. قال: هات. فأنشده قصيدته التي أولها: ألا هل عم في رأيه متأمل *** وهل مدبر بعد الإساءة مقبل وهل أمة مستيقظون لدينهم *** فيكشف عنه النعسة المتزمل فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى *** مساويهم لو أن ذا الميل يعدل وعطلت الأحكام حتى كأنن *** على ملة غير التي نتنحل كلام النبيين الهداة كلامن *** وأفعال أهل الجاهلية نفعل رضينا بدنيا لا نريد فراقه *** على أننا فيها نموت ونقتل ونحن بها مستمسكون كأنه *** لنا جنة مما نخاف ومعقل فكثر البكاء، وارتفعت الأصوات؛ فلما مر على قوله في الحسين رضي الله عنه: كأن حسيناً والبهاليل حوله *** لأسيافهم ما يختلي المتبقل وغاب نبي الله عنهم، وفقده *** على الناس رزء ما هناك مجلل فلم أر مخذولاً أجل مصيبة *** وأوجب منه نصرة حين يخذل فرفع جعفر الصادق رضي الله عنه يديه وقال: اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر وما أسر وما أعلن، وأعطه حتى يرضى. ثم أعطاه ألف دينار وكسوة. فقال له الكميت: والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردتها لأتيت من هي في يديه، ولكنني أحببتكم للآخرة. فأما الثياب التي أصابت أجسادكم فإني أقبلها لبركتها، وأما المال فلا أقبله. وكانت ولادة الكميت سنة ستين، وهي أيام مقتل الحسين رضي الله عنه، وكانت وفاته سنة ست وعشرين ومائة في خلافة مروان بن محمد. وكان السبب في موته أنه مدح يوسف بن عمر، بعد عزل خالد القسري عن العراق، فلما دخل عليه أنشده مديحه معرضاً بخالد، وكان الجند على رأس يوسف متعصبين لخالد، فوضعوا سيوفهم في بطنه وقالوا: أتنشد الأمير ولم تستأمره؟! فلم يزل ينزف الدم منه حتى مات رحمه الله تعالى. والكميت مشتق من الكمتة. يقال للذكر والأنثى، ولا يستعمل إلا مصغراً، وهو تصغير أكمت على غير قياس؛ والاسم الكمتة، وهو من الخيل بين الأسود والأحمر. قال أبو عبيد: ويفرق بين الكميت والأشقر بالعرف والذنب؛ فإن كان أحمرين فهو أشقر، وإن كانا أسودين فهو الكميت. ووجه تصغيره س بما يستحسن فقال لأنه لم يخلص له لون بعينه فينفرد به مكبراً. والله أعلم. وأنشد بعده: وهو وما كان حصن ولا حابس *** يفوقان مرداس في مجمع على أن الكوفيين وبعض البصريين جوزوا للضرورة ترك صرف المنصرف بشرط العلمية. وأنشده أيضاً هنا في آخر الكلام على منتهى الجموع على أن الكوفيين يمنعون الصرف بالعلمية وحدها، لأنها سبب قوي في باب منع الصرف. أراد ببعض البصريين أبا الحسن الأخفش وأبا علي الفارسي وابن برهان. واشتراط العلمية لمنع الصرف إنما هو مذهب السهيلي لا غير، وأما الكوفيون فهم يجيزون ترك الصرف للضرورة مطلقاً، في الأعلام وغيرها، ومن جملة شواهدهم قول الشاعر: فأوفض منها وهي ترغوا حشاشة *** بذي نفسها والسيف عريان أحمر قالوا: ترك صرف عريان وهو منصرف لأن مؤنثه عريانة لا عريا، وسيأتي مثله للشارح في هذا الباب. وقول الفرزدق - وقيل هو لابن أحمر -: إذا قال عاو من تنوخ قصيدة *** بها جرب عدت علي بزبورا قالوا: ترك صرف زوبر وهو منصرف، ومعناه نسبت إلي بكمالها، من قولهم أخذ الشيء بزوبره، إذا أخذه كله. وقيل بزوبرا ، أي: كذوباً وزوراً، وإن كان زوبر عند البصريين معرفة. قال ابن جني في: المبهج ، وهو تفسير أسامي شعراء الحماسة: سألت أبا علي عن ترك صرف زوبر، فقال: جعلها علماً لما تضمنته القصيدة من المعنى. وقال الزمخشري في المفضل: هو علم للكلية كسبحان علم للتسبيح. وكذا ذكره الشارح في باب العلم . نعم أكثر شواهدهم جاءت في الأعلام، وكأنهم راعوا بحسب الأغلب العلمية في منع الصرف وحدها للضرورة. كما أهملوها أيضاً للضرورة. فالمسألة ثلاثية: الجواز مطلقاً، وهو مذهب الكوفيين، والمنع مطلقاً وهو مذهب البصريين، والجواز مع العلمية وهو مذهب السهيلي. وقد حكى هذا المذهب الثلاثة الشاطبي في شرح الألفية . وقال المبرد: الرواية: يفوقان شيخي في مجمع قال ابن مالك في شرح التسهيل: وللمبرد إقبال في رد مالم يرو، مع، البيت يذكر مرداس ثابت بنقل العدل عن العدل في صحيح البخاري ومسلم؛ وذكر شيخي لا يعرف له سند صحيح ولا سبب يدنيه من التسوية، فكيف من الترجيح؟! وقال ابن جني في سر الصناعة ، بعد أن عارض الرواية المشهورة برواية المبرد: على أن المبرد قد حكى عنهم سلام عليكم غير منون، والقول فيه أن اللفظة كثرت في كلامهم فحذف تنوينها تخفيفاً، كما قالوا: لم يك ولا تبل ولا أدر. انتهى. يريد: إن سلمنا رواية الكوفيين فهو من باب حذف التنوين لا من باب منع الصرف. وهذا ظاهر في المنصوب. وليت شعري ما يقول في المجرور إذا جر بالفتحة، كقول الشاعر: الكامل قالت أميمة ما لثابت شاخص *** عاري الأشاجع ناحراً بالمفصل ف ثابت علم جر بالفتحة، وأم أناس بنت ذهل بن شيبان، وعمرو هو عمرو بن حجر الكندي. وقوله: وقائلة ما بال دوسر بعدن *** صحا قلبه عن آل ليلى وعن هند ونحو هذا من أبيات أخر. واستدل الكوفيون على جواز ترك الصرف ضرورة بالسماع والقياس: أما السماع، فكثرة الشواهد وهي تزيد على عشرين بيتاً ذكرها ابن الأنباري في كتاب الإنصاف ، وأثبتها البصريون بروايات ليس فيها ترك الصرف، فقالوا في قوله: وقائلة ما بال دوسر بعدنا الرواية: وقائلة ما للقريعي بعدنا وقالوا في قوله: مجزوء الوافر ومصعب حين جد الأم *** ر أكثرها وأطيبها الرواية: وأنتم حين جد الأمر . وهكذا رووا في سائر الأبيات. فقال الكوفيون: الرواية الصحيحة المشهورة ما رويناه، ولو سلمنا صحة روايتكم فما جوابكم عما رويناه مع صحته وشهرته. وأما القياس فإنه لما جاز صرف مالا ينصرف اتفاقاً وهو خلاف القياس جاز العكس أيضاً، إذ لا فرق بينهما، وأيضاً فإنه إذا جاز حذف الواو المتحركة ضرورة من قوله: فبيناه يشري رحله قال قائل *** لمن جمل رخوا الملاط نجيب وأصله فبينا هو ، فجواز حذف التنوين ضررة من باب أولى، لأن الواو من هو متحركة والتنوين ساكن، ولا خلاف أن حذف الحرف الساكن أسهل من حذف المتحرك. وأما البصريون فقالوا: لا يجوز ترك الصرف، لأن الأصل في الأسماء الصرف، فلو أنا جوزنا ذلك أدى إلى رده عن الأصل إلى الفرع، ولالتبس ما ينصرف بما لا ينصرف. وعلى هذا يخرج حذف الواو من هو نحو قوله: فبيناه يشري رحله فإنه لا يؤدي إلى لبس. وإنما جاز في الضرورة صرف مالا ينصرف لأنه من أصل الاسم، فإذا اضطروا ردوه إلى أصله وإن لم ينطقوا إليه في السعة، كما لم ينطقوا بنحو ضننوا في السعة بخلاف منع الصرف لأنه ليس من أصل المنصرف ألا ينصرف. وقد ذهب ابن الأنباري، في كتاب الإنصاف مذهب الكوفيين؛ لكثرة النقل الذي خرج عن هذا الشذوذ والقلة فقال: ولما صحت الرواية عند الأخفش والفارسي وابن برهان، من البصريين، صاروا إلى جواز ترك الصرف ضرورة تبعاً للكوفيين؛ وهم من أكابر أئمة البصريين والمشار إليهم من المحققين . وأجاب عن كلمات البصريين فقال: أما قولهم: يؤدي ترك الصرف إلى الفرع؛ قلنا: هذا يبطل بحذف الواو من هو في قوله: فبيناه يشري خصوصاً على أصل البصريين فإن الواو عندهم أصلية؛ وقولهم: لا التباس بحذفها غير مسلم، فإنك إذا قلت: غزا هو، بتأكيد الضمير المتصل بالمنفصل، فإذا حذفت الواو حصل اللبس، وكذلك يحصل اللبس بصرف ما لا ينصرف فإنه يوقع لبساً بين المنصرف وغيره، ومع هذا وقع الإجماع على جوازه. فإن قالوا: الكلام هو الذي يتحصل القانون به دون الشعر، وصرف ما لا ينصرف لا يوقع لبساً بين ما ينصرف وبين ما لا ينصرف لأنه لا يلتبس ذلك في اختيار الكلام، قلنا: وهذا هو جوابنا عما ذكرتموه، فإنه إذا كان الكلام هو الذي يتحصل به القانون فترك صرف ما لا ينصرف في الضرورة لا يوجب لبساً بينهما، إذ لا يلتبس ما ينصرف وما لا ينصرف في اختيار الكلام . وأطال الكلام في الرد على البصريين. وقد أورد الفارسي في تذكرته على أصل البصريين سؤالاً لم يجب عنه فقال: أفيجوز في الضرورة أن لا يعرب الفعل المضارع، لأن الأصل كان فيه أن لا يعرب كما كان الأصل في الاسم أن لا ينصرف فإذا لم تعربه رددته إلى الأصل في الضرورة كما رددت الاسم إلى الصرف في الضرورة. واستشهد على ذلك بقوله فاليوم أشرب ونحو ذلك . قيل: أما الأبيات فليست بدليل قاطع، لأنه يجوز أن يكون أجريت في الوصل مجرى الوقف، وبقي النظر في هل يجوز أن لا يعرب. هذا ما قاله ولم يجب عنه. قال الشاطبي: وكأنه إشكال على مذهب البصريين، لكن الجواب يظهر عنه بأدنى نظر. انتهى. وهذا البيت من أبيات سبعة للعباس بن مرداس الصحابي رضي الله عنه ابن أبي عامر بن حارثة بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحرث بن بهثة بن سليم. أسمل قبل فتح مكة بيسير، وأمه الخنساء الصحابية الشاعرة كما يأتي بيانه في ترجمتها. وكان عباس هذا من المؤلفة قلوبهم. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رد سبايا حنين إلى أهلها أعطى المؤلفة قلوبهم، وكانوا أشراف يتألفهم ويتألف بهم قومهم، فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن الحارث بن كلدة، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية - وكل هؤلاء من أشراف قريش - والأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان المجاشعي التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، ومالك بن عوف النصري؛ أعطى كل واحد من هؤلاء مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالاً من قريش، وأعطى عباس بن مرداس أباعر، فسخطها وقال يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم: المتقارب أتجعل نهبي ونهب العبي *** د بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس *** يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهم *** ومن تضع اليوم لا يرفع وقد كنت في الحرب ذا تدر *** فلم أعط شيئاً ولم أمنع إلا أفائل من حربة *** عديد قوائمه الأربع وكانت نهاباً تلافيته *** بكري على المهر في الأجرع وإيقاظي القوم أن يرقدو *** إذا هجع الناس لم أهجع النهب: الغنيمة. والعبيد ، بالتصغير: اسم فرس العباس - وكان يدعى فارس العبيد - وتدرأ ، تفعل بضم التاء وفتح العين مهموز، من الدرء وهو الدفع؛ قال في الصحاح: وقولهم السلطان ذو تدرإ: أي: ذو عدة وقوة على دفع أعدائه عن نفسه وهذا اسم موضوع للدفع . وقوله: فلم أعط شيئاً إلخ، أي: لم أعط شيئاً طائلاً، ولم أعط شيئاً أستحقه وهو المائة، ولم أمنع من الإعطاء لأني أعطيت بعضاً، قيل كان أعطي خمسين. واستشهد به النحاة على حذف الصفة لئلا يلزم التناقض. والأفائل: جمع أفيل بالفاء، كالفصيل وزناً ومعنى، وقال الأصمعي: هو ابن سبعة أشهر وثمانية. ويجمع على إفال أيضاً بكسر الهمزة. وهذه رواية سفيان بن عيينة، وروى ابن عقبة وابن إسحاق إلا أفائل أعطيتها كذا في الاستيعاب لابن عبد البر. فلما أنشد هذه الأبيات بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقطعوا عني لسانه، فأعطي حتى رضي. وقال سفيان بن عيينة: أتمها له مائة. وقال ابن أبي الإصبع، في تحرير التحبير: قال لعلي يا علي اقطع لسانه عني . فقبض على يده وخرج به فقال: أقاطع أنت لساني يا أبا الحسن؟ فقال إني لممض فيك ما أمرت؟ ثم مضى به إلى إبل الصدقة فقال: خذ ما أحببت. قال: وقول علي رضي الله عنه أحسن مواربة سمعتها في كلام العرب . وفيه روايات أخر حكاها السيوطي في شرح شواهد المغني. والمرداس: الحصاة التي يرمى بها في البئر لينظر هل فيها ماء أم لا. وأخطأ شارح اللب حيث قال: إن مرداساً هذا هو رأس الخوارج وكنيته أبو بلال، وحكى رواية الأبيات للصحابي بقيل. وأنشد بعده: وهو أرقني الليلة برق بالتهم *** يا لك برقاً لا يشقه لا يلم قال الشارح: وكذا تهام بفتح التاء في المنسوب إلى التهم بمعنى تهامة. يريد أن الألف في تهام - بالفتح - عوض من إحدى ياءي النسب؛ كما في يمان إذ هو منسوب إلى يمن، وإنما قيد بفتح التاء لأنك إذا كسرتها قلت: تهامي بتشديد الياء لأنه منسوب إلى تهامة - بالكسر -، فالألف من لفظها وليست بدلاً. قال المرزوقي في شرح فصيح ثعلب: رجل تهام أي: من أهل تهامة، والأصل تهمي لأن تهماً قد وضع موضع تهامة، لكنهم حذفوا إحدى ياءي النسبة وأبدلوا منها ألفاً؟ وأنشد هذا البيت عن أبي علي الفارسي. وقال ابن جني في الخصائص: فإن قلت: فإن في تهامة ألفاً، فلم ذهبت إلى أن هذه الألف في تهام عوض من إحدى الياءين للإضافة، قيل: قال الخليل في هذا: كأنهم نسبوه إلى فعل وفعل، وكأنهم كفوا صيغة تهامة وأصاروها إلى تهم وتهم ، ثم أضافوا إليه فقالوا: تهام. وإنما مثل الخليل بين فعل وفعل ولم يقطع بأحدهما لأنه قد جاء هذا العمل في هذين المثالين جميعاً، وهو الشام واليمن، وهذا الترخيم الذي أشرف عليه الخليل ظناً قد جاء به السماع نصاً، أنشدنا أبو علي قال: أنشد أحمد بن يحيى : أرقني الليلة برق بالتهم البيت وقال أبو عبيد البكري، في معجم ما استعجم: التهم بفتح أوله وثانيه، قاله ابن الأعرابي. وأنشد: أرقني الليلة برق بالتهم.. البيت ثم قال: تهامة - بكسر أوله -: أرض طرفها من قبل الحجاز مدارج العرج، وأولها من قبل نجد مدارج ذات عرق؛ وسميت تهامة لتغير هوائها، من قولهم: تهم الدهن وتمه، إذا تغيرت رائحته . وقال ابن حجر في شرح البخاري: وتهامة اسم لكل ما نزل من بلاد الحجاز، سميت بذلك من التهم بفتح المثناة والهاء، وهو شدة الحر وركود الريح وقيل تغير الهواء . لكن صاحب الصحاح والقاموس قالا: إن التهم مصدر من تهامة. وبينه صاحب القاموس فقال: وتهامة - بالكسر - مكة شرفها الله تعالى أرض لا بلد، ووهم الجوهري. ثم قال: والتهمة - بالفتح -: البلدة، ولغة في تهامة، وبالتحريك: الأرض المتصوبة إلى البحر كالتهم، كأنهما مصدران من تهامة لأن التهائم متصوبة إلى البحر،. وأرقني: أسهرني، من الأرق بالتحريك وهو السهر بالليل، وفعله من باب فرح، ونعديته بالتضعيف. ويا لك برقاً تعجب من البرق واستعظام له؛ وقد شرح الشارح في باب الاستغاثة نحو هذا التركيب؛ وبرقاً تمييز، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب. والشوق إلى الشيء: نزاع النفس إليه، يقال: شاقني الشيء أي: جعلني مشتاق، وإنما جعله البرق مشتاقاً لأن حبيبته في تلك الأرض تذكر بالبرق وميض ثناياها فلم تأخذه سنة، كما قال الشاعر: الرجز جارية في رمضان الماضي *** تقطع الحديث بالإيماض وقال المتنبي: أذا الغصن أم ذا الدعص أم أنت فتنة *** وذيا الذي قبلته البرق أم ثغر وأستحسن قول ابن نباتة المصري: تذكرت لما أن رأيت جبينه *** هلال الدجى، والشيء بالشيء يذكر وفاعل يشقه ضمير البرق، والهاء مفعول وهو ضمير من الشرطية ولا يلم بالبناء للمفعول، مناللوم وهو العذل جواب من، ووجود لا النافية لا يمنع الجزم فإن المضارع المنفي بلا إذا وقع جزاء يجوز جزمه كقوله تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم}. ويجوز رفعه، لكن يجب اقترانه حينئذ بالفاء نحو قوله تعالى: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً}. وأورد ابن الأعرابي في نوادره بعد هذين البيتين ثلاثة أبيات أخر ولم يعز الشعر لأحد، وهي: الرجز ما زال يسري منجداً حتى عتم *** كأن في ريقه إذا ابتسم بلقاء تنفي الخيل عن طفل متم ومنجد: من أنجد إذا ذهب إلى النجد، والنجد: كل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد. وعتم: دخل في العتمة، والمشهور أعتم بالألف، والعتمة بالتحريك: الثلث الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق. والريق بالتشديد، وريق كل شيء: أوله. والبلقاء: الفرس التي فيها البلق، وهو بياض وسواد. وتنفي: تطرد. والخيل: مفعوله. وعن: متعلق بتنفي. والمتم - بفتح التاء -: الولد الذي يولد لتمام مدته. وهذا البيت مثل بيت أوس بن حجر في وصف البرق وهو: البسيط كأن ريقه لما علا شطب *** أقراب أبلق ينفي الخيل رماح قال شارحه ابن السكيت: ريقه: مسترقه ليس بمعظمه. والأقراب: جمع القرب وهو الكشح. يقول: ينكشف البرق كما يرمح الأبلق فيبدو بياضه. وأنشد بعده: وهو يحدو ثماني مولعاً بلقاحها على أن ثماني لم يصرف في الشعر شذوذاً، لما توهم الشاعر أن فيه معنى الجمع ولفظه يشبه لفظ الجمع، وكان القياس أن يقول: ثمانياً. قال ابن السيد: في ثماني لغتان: الصرف لأنه اسم عدد وليس بجمع، ومنع الصرف لأنه جمع من جهة معناه، لأنه عدد يقع للجمع، بخلاف يمان وشآم، لأنه غير جمع وفيه جمع، فإن س وغيره قالوا: إنه شاذ، توهم الشاعر فيه معنى الجمع فلم يصرفه. ولم يقل أحد إنه لغة. وفي شرح شواهد الكتاب للنحاس: قال سيبويه: وقد جعل بعض الشعراء ثماني بمنزلة حذاري: حدثني أبو الخطاب، أنه سمع العرب ينشدون هذا البيت غير منون. وسمعت أبا الحسن يقول: إن هذا الأعرابي غلط وتوهم أن ثماني جمع على الواحد وتوهم أنه من الثمن . أي: توهم أن الجزء الذي صير السبعة ثمانية فهو ثمنها. وقال الأعلم الشنتمري: كأنه توهم أن واحد ثمنية كحذرية ثم جمع فقال ثماني كما يقال حذاري في جمع حذرية، والمعروف صرفها على أنها اسم واحد أي: بلفظ المنسوب، نحو يمان. والحذرية، - بكسر الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة وتخفيف المثناة التحتية: قطعة غليظة من الأرض. وهذا المصراع صدر، وعجزه: حتى هممنا بزيغة الإرتاج وقبل هذا البيت: كأن أصل رحالها وحباله *** علقن فوق قويرح شحاج وهذان البيتان من قصيدة لابن ميادة، كما قال السيرافي. شبه ناقته بسرعتها بحمار وحش قارح، يحدو ثماني أتن: أي: يسوقها مولعاً بلقاحها حتى تحمل، وهي لا تمكنه فتهرب منه؛ لأن الأنثى من الحيوان غير الإنسان، لا تمكن الفحل إذا حملت. والرحال: جمع رحل، وهو كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع، ومركب للبعير، وحلس ورسن. وضمير رحالها للنافة وعلقن بالبناء للمفعول، والنون ضمير الرحال والحبال، واكتسب المضاف الجمعية من المضاف إليه لأنه يصح سقوطه. والقويرح: مصغر قارح، وهو من ذي الحافر الذي انتهت أسنانه، وإنما ينتهي أسنانه في خمس سنين، والتصغير للتعظيم. والشحاج - بفتح الشين المعجمة وتشديد الحاء المهملة -، قال في الصحاح: هو الحمار الوحشي؛ وهو بدل من قويرح وعطف بيان. ويحدو بمعنى يسوق، وفاعله ضمير الشحاج، والجملة صفة له. وأراد بالثماني أتنه ولهذا حذف التاء منه، ولأن المعدود محذوف. والمولع من أولع بالشيء بالبناء للمفعول، فهو ملع به بفتح اللام، أي: أغرى به وعلق به. واللقاح كسحاب: ماء الفحل في رحم الناقة. وفي المصباح: اللقاح - بفتح اللام وبكسرها -: اسم من ألقح الذكر والأنثى، أي: أحبلها. وحتى غاية لقول يحدو. وهم بالشيء من باب قتل، إذا أراده ولم يفعله. والزيغة ، - بفتح الزاي المعجمة - وسكون المثناة التحتية وبالغين المعجمة، مصدر زاغ يزيغ، أي: مال. والإرتاج - بالكسر -: أرتجت الناقة إذا أغلقت رحمها على ماء الفحل.. يريد أن هذا الحمار عدا خلف أتنه ليلقحها ويركبها حتى تحبل، فهربت منه، فكأنه ساقها سوقاً عنيفاً حتى همت بإسقاط ما أرتجت عليه أرحامها من الأجنة وإزلاقه، وكان زمام هذه الناقة مرتبط بهذا الحمار الشديد الحرص على اللقاح بأتنه، فهي تعدو بعدوه، وهذا غاية في سرعة الناقة. وروى: بربقة الإرتاج والربقة - بكسر الراء المهملة - وسكون الموحدة وبالقاف أراد به العقد، لأنها إذا أغلقت فم الرحم على ماء الفحل فكأنها، عقدته ومنه الحديث: فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه أي: عقد الإسلام. وأصل الربقة واحد الربق - بالكسر -، وهو حبل فيه عدة عرى تشد به البهم، الواحدة من العرى ربقة. ولابد من تقدير مضاف على هذه الرواية، أي: حتى هممن بحل ربقه الإنتاج، يعني أرتجت هذه الأتن وانحلت من شدة الجري حتى لم تقدر أن تضبط ما في أرحامها. ولم يقف الأعلام الشنتمري على البيت الأول. فظن أنه في وصف راع فقال: وصف إبلاً أولع راعيها بلقاحها حتى لقحت، ثم حداها أشد الحداء حتى همت بإسقاط ما في بطونها من الأجنة. وابن مبادة هو أبو شراحيل وقيل أبو شرحبيل. واسمه الرماح، كشداد بن يزيد. وهو من بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، رهط الحارث بن ظالم، كذا في كتاب الشعراء لابن قتيبة. وميادة أمه، وهي أم ولد بربرية، وقيل صقلبية، وكان هو يزعم أنها فارسية. وفي ذلك يقول: أنا ابن أبي سلمى وجدي ظالم *** وأمي حصان حصنتها الأعاجم أليس غلام بين كسرى وظالم *** بأكرم من نيطت عليه التمائم وسبب تسميتها أنه لما أقبلوا بها من الشام نظر إليها رجل وهي ناعسة تتمايل على بعيرها فقال: إنها لميادة، فسميت به وغلب عليها. وابن ميادة شاعر مقدم فصيح، لكنه كان متعرضاً للشر طالباً لمهاجاة الناس، ومسابة الشعراء، وله من الحكم الخضري مهاجاة ومناقضات كثيرة وأراجيز طويلة، وقد أدرك الدولتين. كان في أيام هشام بن عبد الملك، وبقي إلى زمن المنصور، ومدح من بني أمية الوليد بن يزيد وعبد الواحد بن سليمان، ومن بني هاشم أبا جعفر المنصور وجعفر بن سليمان. ولما قال من قصيدة: فضلنا قريشاً غير رهط محمد *** وغير بني مروان أهل القبائل قال له إبراهيم بن هشام: أأنت فضلت قريشاً؟! وجرده وضربه أسواطاً. ولما سمع البيت الوليد بن يزيد قال له: قدمت آل محمد علينا؟ قال: ما كنت يا أمير المؤمنين أظنه يكون غير ذلك. فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس قدم على المنصور فمدحه، فقال له لما دخل عليه: كيف قال لك الوليد؟ فأخبره، فجعل يتعجب، ولم يعد إلى المنصور بعدها لما رأى قلة رغبته في مدائح الشعراء، ونزارة ثوابه لهم. وتوفي في صدر خلافته في حدود الست والثلاثين بعد المائة. وبنو ذبيان تزعم أن ابن ميادة آخر الشعراء الذين يستشهد بأشعارهم. روى أبو داوود الفزاري أن ابن ميادة وقف يوماً في الموسم ينشد: لو أن جميع الناس كانوا بتلعة *** وجئت بجدي ظالم وابن ظالم لظت رقاب الناس خاضعة لن *** سجوداً على أقدامنا بالجماجم والفرزدق واقف عليه متلثم، فقال له: يا ابن يزيد، أنت صاحب هذه الصفة؟! كذبت والله، وكذب سامع ذلك منك فلم يكذبك. قال: فمن يا أبا فراس؟ قال: أنا أةلى به منك. قال: لو أن جميع الناس كانوا بتلعة *** وجئت بجدي دارم وابن دارم لظلت رقاب الناس خاضعة لن *** سجوداً على أقدامنا بالجماجم فأطرق ابن ميادة ولم يجبه، ومضى الفرزدق وانتحلها. وأنشد بعده: وهو بلغتها واجتمعت أشدي على أن شد جمع شدة على غير قياس، وجمع لا واحد وله بدليل تأنيث الفعل له. وفي الصحاح . كان س يقول: واحده شدة، وهو حسن في المعنى لأنه يقال بلغ الكلام أشده، ولكن لا يجمع فعله على أفعل، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم بالضم: ضد البؤس. وقيل هو جمع شد بالفتح نحو كلب وأكلب وقيل جمع شد - بالكسر - مثل ذئب ولأذؤب. وكلا هذين القولين قياس وليسا بمسموعين، وقيل هو جمع لا واحد له من لفظه مثل محاسن ومشابه، وقيل هو ليس بجمع وإنما هو مفرد جاء على صيغة الجمع مثل آنك، وهو الأسرب ولا نظير لهما . وهذا قول أبي زيد. وحكى في همزته الضمة: لغة في فتحها، ومعنى الأشد القوة وهو ما بين ثماني عشرة سنة وثلاثين. وقيل: إلى أربعين، وإلى خمسين. قال سحيم بن وثيل: الوافر أخو خمسين مجتمع أشدي *** ونجذني مداورة الشؤون وفي عمدة الحفاظ للسمين: هو جمع شدة بمعنى القوة والجلادة في البدن والعقل، وقد شد يشد شدة إذا كان قوياً، وأصل الشدة العقد القوي، وشددت الشيء: قويت عقده، وأشد يستعمل في العقل وفي البدن وفي قوى النفس. هذا واستدلال الشارح المحقق - تبعاً لابن الحاجب في شرح المفصل - بتأنيث الفعل لكون أشد جمعاً محل بحث؛ فإن أهل التفسير واللغة أجمعوا على تفسيره بالقوة، فيحتمل أن يكون تأنيث الفعل له باعتبار معناه لا لكونه جمعاً، وكان ينبغي أن يستدل بمادة الفعل وصيغته، فإن الجمع معناه تأليف المتفرق، والاجتماع مطاوعه وهو تألف المتفرق، فلا يتصور معناه إلا بين متعدد، ولا يكون الاجتماع من شيء واحد. على أن الرواية: بلغتها مجتمع الأشد بالخطاب لا يتكلم. وهو من أرجوزة لأبي نخيلة مدح بها هشام بن عبد الملك، منه: الرجز وقلت للعيس اعتلي وجدي *** فهي تخدى أحسن التخدي قد أدرعن في مسير سمد *** ليلاً كلون الطيلسان الجرد إلى أمير المؤمنين المجدي *** رب معد وسوى وعد ممن دعا من أصيد وعبد *** ذي المجد والتشريف بعد المجد في وجهه بدر بدا بالسعد *** أنت الهمام القرم عند الجد بلغتها مجتمع الأشد *** فانهل لما قمت صوب الرعد والعيس الإبل البيض يخالط بياضها شقرة، مفردة المذكر أعيس والمؤنث عيساء. واعتلي: ارتفعي. والجد - بالكسر -: الاجتهاد في الأمور، تقول: جد في الأمر يجد بالضم. وتخدى ، بالخاء المعجمة وفتح الدال المهملة، أصله تتخدى، أي: تسرع، حذفت منه التاء: من خدى البعير يخدي خدياً: أسرع وزج بقوائمه. والسمد ، - بفتح السين المهملة سكون الميم -، في الصحاح: وسمدت الإبل في سيرها: جدت. وفي القاموس: هو السرمد أي: الطويل الدائم، يقال هو لك سمداً أي: سرمداً. والادراع: افتعال لبس الدرع وهو قميص المرأة. والطيلسان: من لباس العجم، لونه أسود للمهابة. والجرد الخلق، يقال ثوب جرد. والمجدي: اسم فاعل من أجدى عليه بمعنى أعطاه عطاءاً كثيراً، من الجداء والجدوى - بفتح الجيم فيهما -، وهو المطر الذي لا يعرف أقصاه، وقيل المطر العام. ورب كل شيء: مالكه ومستحقه. ومعد: أبو العرب وهو معد بن عدنان. وقوله ممن دعا بيان لقوله سوى معد . وقوله من أصيد إلخ بيان لمن دعا، أي: هو سيد من دعا لنفسه من ملك وسوقة. والأصيد: الملك. وقوله أنت الهمام التفات من الغيبة إلى الخطاب. والهمام: الملك العظيم الهمة والسيد الشجاع. والقرم - بالفتح -: السيد، وأصله الفحل المكرم لا يركب ولا يرحل. والجد - بالكسر - ضد الهزل، تقول جد يجد - بالكسر -. وقوله بلغتها بالبناء للفاعل، وروى بلغتها بالبناء للمفعول والتشديد أيضاً، وروى أيضاً طوقتها بالبناء للمفعول والتشديد أيضاً، والطوق: حلي العنق وكل ما استدار بشيء؛ وتطوقه: لبسه. وضمير بلغتها للخلافة المعهودة ذهناً. ومجتمع اسم فاعل حال من ضمير المخاطب، ولا تضر بالإضافة لأنها لفظية. وظهر بهذا أن البيت الشاهد على غير وجهه، ويحتمل أن يكون من أرجوزة أخرى، والله أعلم. وانهل بمعنى سال إن كان الصوب بالباء الموحدة، وبمعنى ارتفع، أن كان الصوت بالمثناة الفوقية.. يريد إنك لما قمت بأمر الخلافة انفتح أبواب الخير. وفي الأغاني أن أبا نخيلة قال: قرأتها حتى أتيت إلى آخرها وهممت أن أسأله فيها، ثم تذكرت أن الناس نصحوني على أن لا أسأله شيئاً فإنه يحرم من يسأله، فلما فرغت أقبل على جلسائه فقال: الغلام السعدي أشعر من الشيخ أبي النجم العجلي. وخرجت فلما كان بعد أيام أتتني جائزته.. ولما أفضت الخلافة إلى السفاح نقل هذه الأرجوزة الدالية إليه، فهي إلى الآن في ديوانه منسوبة إلى السفاح. وأبو نخيلة بضم النون وفتح الحاء المعجمة، اسم الشاعر لا كنيته. كذا في الأغاني. وقال ابن قتيبة: اسمه يعمر، وكنى أبا نخيلة لأن أمه ولدته إلى جنب نخلة. ويكنى أبا الجنيد وأبا العرماس، وهو من بني حمان بن كعب بن سعهد، - بكسر المهملة وتشديد الميم -. وكان عاقاً لأبيه فنفاه أبيه عن نفسه، فخرج إلى الشأم فأقام هناك إلى أن ماتأبوه، ثم عاد وبقي مشكوكاً في نسبه، مطعوناً عليه. وكان الأغلب على شعره الرجز، وله قصيد ليس بالكثير. ومن شعره: وإن بقوم سودوك لحاجة *** إلى سيد لو يظفرون بسيد ولما خرج إلى الشأم اتصل بمسلمة بن عبد الملك فاصطنعه وأحسن إليه، وأوصله إلى الخلفاء واحداً بعد واحد، واستماحهم له فأغنوه. وكان بعد ذلك قليل الوفاء: انقطع إلى بني العباس، ولقب نفسه بشاعر بني هاشم، فمدح الخلفاء من بني العباس وهجا بني أمية. وكان طامعاً، فحمله طمعه على أن قال في المنصور أرجوزة يغريه فيها بخلع عيسى بن موسى وبعقد العهد لابنه محمد المهدي، فوصله أبو جعفر بألفي درهم، وأمره أن ينشدها بحضرة عيسى، ففعل فطلبه عيسى فهرب منه، وبعث في طلبه مولى له فأدركه في طريق خراسان، فذبحه وسلخ وجهه. وأنشد بعده: وهو جذب الصواريين بالكرور على أن الصراري جمع صراء وهو جمع صار بمعنى الملاح، وهو السفان الذي يجري السفينة. والصاري بالصاد والراء المهملتين على وزن القاضي معتل اللام بالياء، وجمعه على صوار قياس مطرد لأنه جمع فاعل، اسماً لا وصفاً، بخلاف جمعه على صراء؛ إذ جمع فاعل المعتل اللام على فعال نادر، نحو جان وجناء، وغاز وغزاء، وقار وقراء، ولما شابه صراء وزن المفرد نحو زنار وكلاب جاز جمعه على فعاعيل نحو صراري، كما تقول زنابير وكلاليب، ثم جمع الصراري جمع تصحيح فقيل الصراريون. هذا تقرير كلام الشارح. وقال أبو علي الفارسي في الإيضاح الشعري: الأشبه أن يكون صراء مفرداً جمعه صراري، ألا ترى أن فعالاً جمعاً كشهاد ولم نعلمه جاء مكسراً كما جاء تكسير فعال نحو جمال وجمائل. وعلى هذا يكون الصراء كالصارى . وكلا هذين القولين خلاف المنقول والمسموع. أما الأول فقد نقل الثقات - كابن السيرفي في شرح شواهد إصلاح المنطق ، والجواليقي، وابن السيد في شرح شواهد أدب الكاتب ، وصاحب الصحاح والعباب والقاموس - أن الصراري مفرد مثل الصاري، وأن جمعه الصراريون، وأنشدوا له هذا البيت، وأن جمع الصاري الصراء كقوله: إشراف مردي على صرائه فيكون الصراري من مادة الثلاثي المضعف، والصاري من مادة الثلاثي المعتل. إلا أن صاحب القاموس أساء حيث أورد الصراري في المعتل أيضاً جمعاً للصاري، مع أن فاعلاً لا يجمع على فعاليل، وإنما الذي يجمع عليه فعال بالضم والتشديد كما مر، وفعال - بالفتح والتشديد - نحو: جبار وجبابير. وزنة فعال غير موجودة في أوزان المفردات من أبنية سيبويه وغيرها، فيكون في الأصل منسوباً إلى صرارة وهو اسم نهر، والذي لم يحج، والذي لم يتزوج؛ وإلى صرار بدون هاء وهو كسحاب وكتاب: اسم واد بالحجاز. وأما الثاني فقد قال الفرزدق: البسبيط ترى الصراري والأمواج تضربه *** لو يستطيع إلى برية عبرا وقال خليفة بن حمل الطهوي أيض: البسيط ترى الصراري في غبراء مظلمة *** تعلوه طوراً ويعلو فوقها تيرا فقد رجع الضمير إليه في البيت الأول مفرداً ثلاث مرات، وفي البيت الثاني رجع إليه مفرداً مرتين. وقال القطامي، في وصف غواص درة شبه حبيبته بها، من قصيدة: البسيط حتى إذا السفن كانت فوق معتلج *** ألقى المعاوز عنه ثمت انكمتا في ذي جلول يقضي الموت صاحبه *** إذا الصراري من أهواله ارتسما فول كان جمعاً كما زعما لقال: ارتسموا. قال شارح ديوانه أبو سعيد السكري: والصراري الملاح، والصراء الملاحون، والواحد صار . وأورد الحريري في درة الغواص البيت الثاني وزعم أنه يصف فلكاً. والمعتلج: اسم فاعل من اعتلجت الأمواج: التطمت واضطربت. والمعاوز - بالفتح -: جمع معوز - بالكسر -، وهو الثوب الخلق الذي لا يتبدل، لأنه لباس المعوزين. والمعاوز مفعول ألقى ، وفاعله ضمير الغواص في بيت قبله. وانكتم معطوف على ألقى، وضميره كضميره. وقوله في ذي جلول متعلق بانكتم، أي: توارى في ماء كثير عظيم. والجلول: جمع جل، وهو معظم الشيء، وقيل الجلول جمع جل - بفتح الجيم -، بمعنى الشراع، يعني ماء فيه سفن لها شرع. والارتسام - بالسين المهملة: التكبير والتعوذ والدعاء. يقول: إن الملاح دعا وعوذ حين شاهد عظم الأهوال بتلاطم الأمواج. وبيت الشاهد من أرجوزة للعجاج يصف فيها سفينة. وقبله: الرجز لأيا ينائيها من الجئور *** جذب الصرارين بالكرور إذ نفحت في جلها المسجور *** حدواء جاءت من حيال الطور اللأي - بفتح اللام وسكون الهمزة -: البطء والشدة، وهو منصوب على نزع الخافض أي: بلأي. وينائيه: يباعدها من النأي، وروى يثانيها بالمثلثة والنون من ثناه إذا عطفه. والجئور: مصر جار، إذا عدل عن القصد، وهو مصدر سماعي جاء على فعول بالضم، لكن همز عينه على مقتضى القاعدة. ولم أر من نبه على هذا المصدر غير ابن السيرافي في شرح شواهد إصلاح المنطق وابن السيد البطليوسي في شرح شواهد أدب الكاتب ، وكلاهم نبها عليه في هذا البيت، وكذلك الجواليقي في شرح أدب الكاتب: أيضاً. والكرور: الحبال، واحدها كر - بالفتح -، قال أبو حنيفة في كتاب النبات: قال أبو خيرة: الكر الغليظ من الحبال. وقال الطوسي: هو حبل يكون من جلود وغيرها. وأنشد هذا البيت. وجذب فاعل ينائيها . يقول: إذا عدلت هذه السفينة وجارت عن القصد لم يصرفها الملاحون عن ذلك إلا بعد بطء ومشقة. ونفحت بالحاء المهملة: هبت. والجل - بفتح الجيم -: الشراع، كما تقدم. والمسجور - بالسين المهملة والجيم -: الذي شد بالحبال. قال في العباب: اللؤلؤ المسجور: المنظوم المسترسل، قاله أبو عبيد. وأنشد للمخبل السعدي: الكامل وإذا ألم خيالها طرفت *** عيني فماء شؤونها سجم كاللؤلؤ المسجور أغفل في *** سلك النظام فخانه النظم والحدواء فاعل نفحت بالحاء والدال المهملتين، وهي الريح التي تحدو السحاب، أي: تسوقها، وهي ريح الشمال. والطور: جبل، والريح التي تجيء من قبله هي الشمال. وحيال الطور: ناحيته وإزاؤه، وهي - بكسر الحاء المهملة، وبالمثناة التحتية -، يقال قعد حياله وبحياله أي: بإزائه. وروى: من بلاد الطور . والعجاج اسمه عبد الله وكنيته أبو الشعثاء، وتقدم نسبه في ترجمة ولد رؤبة في الشاهد الخامس، وكان يقال له عبد الله الطويل، ولقب بالعجاج لقوله: الرجز حتى يعج عندها من عجعجا وهو أول من رفع الرجز وجعل له أوائل وشبهه بالقصيد. وأنشد بعد الكميت، وهو
|